الآنسة «صفية» أحبت الزعيم سعد واعتبرته زوجا وأبا
ومعلما
لم يجزم أحد أن
«أمير الحكاية النبيل» قد أحب الأميرة المصرية الوحيدة، ولكن ربما أنه بادلها
الإعجاب حينا، أو أنه شعر من داخله بحنوها عليه، وإيمانها به,, في مرحلة مهمة من
مراحل حياته الصعبة,, وبحماسها الشديد له وهو يشق طريقه بصعوبة في بداية رحلته مع
المحاماة.
وبإيمان المحبين,, فتحت الأميرة الشابة أبواب المجتمع الأرستقراطي
أمام «الزعيم المنتظر» عندما قررت أن يكون وكيلا لأعمالها، ومسؤولا عن كل قضاياها,,
فامتلك الثقة الكبيرة,, والمال الذي مكنه من التعرف على وجهاء هذا العصر من
المصريين والأجانب وكان من بينهم ـ كما يقول الدكتور عبدالعظيم رمضان ـ أفلن بيرنج
الذي عرف فيما بعد باللورد كرومر المعتمد السامي البريطاني,, وكان ذلك بداية لعودته
للوظائف المدنية رغم الحرمان المدني,.
وهناك من تمادى إلى أبعد من ذلك وقال إنها
هي التي رشحته للزواج من السيدة صفية زغلول,, ابنة رئيس الوزراء المصري آنذاك مصطفى
باشا فهمي,, وهو ما نفاه سعد باشا نفسه لأقرب المقربين حيث اعترف أن السبب في زواجه
من هذه السيدة الفاضلة هو صديق عمره قاسم أمين، وهو ما جعله يقول: لن أنسى هذا
الفضل لقاسم أمين ما حييت.
والمؤكد أن الأميرة نازلي فاضل لم تشعر بالارتياح ولو
للحظة لزواجه من السيدة صفية، لأنها كانت تدرك أنه سيقضي على أي أمل لها بالاقتران
به,.
إشاعة
حب
القصة الثانية في حياة زعيم الأمة,, كانت شائعة قوية ظلت تطارده حتى بعد
أن تزوج من السيدة صفية زغلول,, وكانت تتردد على ألسنة الكثيرين بمن فيها صديقات
عروسه الأولى والأخيرة,, وكانت الشائعة تقول إن «سعد» تزوج من إحدى بنات قريته في
سن مبكرة وأنه أنجب منها أبناء.
وهى قصة نفاها الكاتب الكبير عباس محمود العقاد
نفيا قاطعا عندما قال في كتابه عن سعد باشا: سألت العالم الفاضل المرحوم الشيخ محمد
فريد بك الأبياني فيها فاستبعدها جدا وقال «إني أعتقد أنها غير صحيحة، ويؤكد
اعتقادي أن أبيانه قائمة على أسر ثلاث هى أسرة «الزغاللّه» وأسرة زيد وأسرة حسام
الدين، فلو تزوج من بلدته لتزوج من إحدى هذه الأسر ولاشتهر ذلك، وبعيد جدا أن يتزوج
من فتاة من المجهولات الأنساب لأن هذا كان عارا شديدا بين أبناء الريف.
ويروي
عباس العقاد أن سعد زغلول كان مشغولا بدراسته للحقوق بعد زواجه، وأنه كان يعتكف في
حجرة في بيته يذاكر فيها دروسه، حتى ساعة متأخرة من الليل وأنه كان يحتفظ في هذه
الغرفة بسرير ينام عليه إذا غلبه النعاس حتى لا يزعج عروسه إذا دخل عليها الغرفة في
ذلك الوقت.
وبالرغم من ذلك
تجرأت بعض الصديقات وسألن العروس الشابة عما سمعن بأن عريسها متزوج من امرأة أخرى
في بلدته,, فابتسمت وقالت بخفة ظلها التي كانت تتجلى في المواقف الصعبة وقالت: نعم
إنه متزوج بأخرى موجودة معنا في نفس البيت.
وهنا ألجمت الدهشة لسان الصديقات,,
فتمادت السيدة صفية وقالت: سأريكن إياها وأسمعكن صوته معها في هذه اللحظة,,
واصطحبتهن ليقفن بحوار الغرفة,, ففوجئن بصوته وهو يقرأ في كتبه بصوت عال على طريقة
الأزهريين وهنا اتسعت ابتسامتها وقالت: زوجته هي هذه الأوراق,, إنها الضرة التي
تشاركني حياتي معه,, وهكذا قطعت السيدة صفية قول كل خطيب كما فعلت «جهيزة» في المثل
العربي الشهير,,!!
وهكذا تبقى قصة الحب الوحيدة في حياة زعيم الأمة باعتبارها
الحقيقة الوحيدة التي لم يتسرب إليها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها.
عريس
بنت الوزير
عندما ولدت السيدة صفية مصطفى فهمي كان أبوها وزيرا، وعندما شبت عن
الطوق كان قد أصبح رئيسا لوزراء مصر,, كانت الطفلة المدللة لأبيها التي تأمر فلا
يملك الجميع إلا الطاعة,, الأب والأم,, والإخوة,, وحتى الخدم، وخاصة هذا «الأغا»
فيروز الذي حملها ودللها وهى صغيرة وأهداه لها أبوها عندما تزوجت من هذا المحامي
الشاب، لكنه فوجئ برفض الهدية، لأنه كان يرفض دخول الأغوات إلى بيته فهو فلاح «مصري
شهم، يرى أن خصي الرجل وحرمانه من رجولته ـ كما يقول الكاتب الكبير مصطفى أمين ـ
وبيعه كالرقيق عمل غير إنساني,, وهو لا يقبل أن تعيش في بيته جريمة تمشي على
قدمين.
عندما تقدم لخطبتها كان في الخامسة والثلاثين، وكانت هى في السابعة عشرة
من عمرها,, كان فلاحا بسيطا,, ومحاميا بسيطا,, وكانت هي فتاة أرستقراطية بكل معاني
الكلمة,, وكان مجرد إقدامه على خطبة هذه الفتاة بأصوله الكريمة البسيطة,, ومهنته
غير المقبولة,, جرأة يحسد عليها، وكان قبول أبيها لهذا الزواج جرأة من نوع آخر,,
تعكس الثقة في هذا الشاب الواعد، الذي يبعث بكلماته ومواقفه وتاريخه النضالي الثقة
فيمن يعرفونه، فهو شاب عصامي، ثار,, وسجن,, وتحدى الظلم، وبنى نفسه بسياسة الخطوة
خطوة,, واستطاع أن يصبح من المرموقين في سنوات قليلة، وأصبح يمتلك من الأطيان ما
يستطيع أن يؤمن به حياة عروسه.
ورغم ذلك كان الأمر «مخاطرة» أو «مغامرة» اجتماعية، ربما لم يكن
يفكر فيها إلا «زعيم منتظر» كان يدرك بفطرته أن الدنيا ستتحدث عنه، وأنه يملك
الكثير من الكنوز غير المنظورة في داخل عقله ونفسه,, ولهذا لم يفكرالعريس أن ينتمي
لرئيس الوزراء أو لابنته,, بل عمد لفرض إرادته منذ اللحظة الأولى، ولذلك فعندما
خطبها صارحها بأنه لا يحب أن تلون وجهها بالأصباغ والمساحيق، فوافقت,, وكانت العروس
الوحيدة من بين بنات طبقتها التي لم تتزين ليلة زفافها,, وظلت هكذا حتى آخر يوم من
حياتها,, والتي استمرت سنوات طويلة بعد رحيله.
في ليلة زفافها جلست أم العروس
تلقن ابنتها الصغيرة «سيناريو» الزواج الذي كانت تخضع له بنات الطبقة الراقية في
ذلك الوقت، وأخبرتها أن العريس سوف يصحبها إلى بيتها في عربة حنطور وأنه عندما ستقف
العربة سيهبط منها العريس ويقول لها «تفضلي»,, وأن عليها ألا تستجيب لدعوته أول ولا
ثاني مرة,, فالواجب أن تستجيب لندائه في المرة الثالثة.
وجاء العريس بالحنطور,,
وركبت العروس معه، وأمام المنزل في حي الظاهر، جلس وأشار لها بابتسامة وقورة وقال
لها «اتفضلي» فجلست صامتة,, وكانت المفاجأة التي لم تتوقعها,, حيث أدار العريس ظهره
لها وبدأ يسير في اتجاه البيت، وهنا قفزت العروس من الحنطور لتتابعه,, وكانت تتندر
كلما روت هذه الحكاية وتقول: «من يومها أصبحت أجري وراءه».
الطريق إلى بيت
الأمة
كان العريس,, زوجا,, وأبا,, ومعلما لعروسه الصغيرة التي نسيت أمام وقاره
واعتزازه بنفسه كل الجاه الذي عاشت فيه في بيت أبيها,, أحست أنه الرجل الذي تحلم كل
فتاة أن تقترن به، وأن تسير خلفه، وأن تستمع إلى كلامه وتطيعه بحب.
وبعد سنوات
قليلة انتقلت معه من بيته البسيط في حي الظاهر إلى القصر الذي أقامه من أجلها في حي
الإنشا,, والذي أصبح فيما بعد بيت الأمة.
كان يحلم بأن يملأ حجرات القصر أبناء وأحفادا، ولكن
القدر الذي أعطاه الكثير، حرمه من تلك النعمة، وإذا كان قد أنجب ذرية كبيرة في
الشائعات,, فإنه حرم من أن يكون أبا في الحقيقة,, وعندما أدرك استحالة تحقيق هذه
الأمنية بعد أن طاف بزوجته على أطباء أوروبا,, لم يفكر ولو للحظة في أن يتزوج
بامرأة أخرى غير هذه المرأة التى أحبها من كل قلبه، وملأت دنياه بحبها وحنانها
ورعايتها.
وفضل سعد باشا أن يتبنى ابني شقيقته السيدة رتيبة «والدة الكاتبين
الكبيرين مصطفى وعلي أمين» وسعيد زغلول الذي رحل في ريعان شبابه، بعد صدمة عاطفية
كبيرة عندما اختطف منه السلطان أحمد فؤاد «الملك فؤاد فيما بعد» المرأة الوحيدة
التي أحبها وهي الأميرة نازلي كريمة عبدالرحيم باشا صبري,, التي أصبحت فيما بعد
الملكة نازلي.
لم يكن سعد باشا يذكر موضوع حرمانه من البنين أمام زوجته إلا
بعبارات التهوين والسلوى فكان يقول لها: لقد فاتنا النسل فأصبحت هذه الأمة كلها من
أبنائك وأبنائي فنعم العوض الذي عوضنا الله به.
وكانت السيدة صفية بالرغم من
امتلاء البيت بالخدم والأتباع ترفض أن تكل الأشياء التي يهتم بها لأحد غيرها، فكانت
تشرف على تنظيف البيت,, وإعداد الطعام بنفسها كأي امرأة متزوجة من موظف
بسيط.
ومن النوادر التي كانت تروى عنها أنه كان سيد الموقف في بيته دائما لا
يغير من نظامه ولا طقوسه، إلا في يوم واحد من أيام الأسبوع، وهو ما كان يعرف بيوم
«التنفيض»,, ففي كل يوم كان يستيقظ في السادسة والنصف صباحا فيتناول القهوة ويصحب
صحفه إلى الحمام، حيث يحلق ذقنه ويستحم ويتناول إفطاره في حوالى ساعة,, ثم يخرج من
بيته إلى عمله إذا كان مرتبطا بالعمل في الوزارة، أو إلى مكتبه في البيت لمقابلة
زواره.
أما في يوم «التنفيض» فكانت زوجته تدخل عليه حجرته دون أن تنطق بكلمة
واحدة,, فيعرف أن عليه الإسراع في كل شيء,, في الحمام,, وأن ينتهي من تناول إفطاره
في دقائق,, وهي تعاجله في كل لحظة حتى يخرج من البيت,, فكان يداعبها بحنان بالغ
قائلا «مقلقة الراحات وهادمة اللذات» ويغدار البيت,, ليعود إليه ليجد أن كل غرفة
فيه قد تحولت إلى قطعة من البللور.
سعد باشا
الإنسان
كثيرة هى تلك
التفاصيل التى أذيعت ونشرت عن «الزعيم» سعد زغلول,, ولكن قليلا من التفاصيل عن
«الإنسان» سعد زغلول,, ترفعه إلى مصاف القديسين.
لقد كان «سعد» هذا الخطيب
المفوه,, التي تهتز الدنيا لكلماته,, وعباراته وخطبه الرنانة,, رجلا رقيق الحال في
بيته لا يسمع له صوت,, ولا يخشى خدمه زجره أو نهيه,, حتى إن زوجته السيدة صفية كانت
تشكوهم إليه وتدعوه إلى تخويفهم,, فكان يقول لها: هذا شأنك معهم,, افعلي ما شئت إلا
ما يتعلق بقطع الأرزاق.
وفي إحدى وصاياه لأم المصريين,, قال: «إذا همُمّ القضاء
وأدركتني الوفاة أرجو أن تصرفوا من تركتي مبلغ خمسمائة جنيه للحاج أحمد تابعي
وخمسمائة إلى محمد أحمد، ومائة إلى علي الفراش، إذا كانوا في خدمتنا عند حلول
الأجل».
وعند نفيه إلى جزيرة مالطة، كان لرفيق كفاحه حمد الباسل باشا خادم
يرافقه اسمه «حسن»,, وعندما وصلوا إلى بورسعيد، وعرف الخادم أن جهة النفي بعيدة،
اضطرب خوفا على مستقبل أبنائه,, فأمره سعد باشا أن يزيد له ولهم من المال حتى يطمئن
قلبه,, ولم يكتف بذلك، بل دعا زعماء الوفد إلى عقد اجتماع ـ على سبيل الدعابة ـ لما
أسماه بمجلس وزراء المعتقل، وقرر أن يمنح هذا الخادم لقب «بك» وأصبح الجميع ينادونه
باسم «حسن بك» طوال النفي,, وكان الرجل يعتقد أن خلع هذا اللقب عليه هو منحة رسمية
فظل يعتز به حتى وفاته.
وكان سعد باشا وفيا لأهله وأقاربه,, وقد لامه البعض أنه يعينهم في
المناصب الكبرى فكان يرد عليهم قائلا: إنني عند تساوي الدقة والكفاءة أفضل قريبي
علي غيره لأني بطبيعة الحال أثق بقريبي ثقة تامة في تنفيذ سياستي، أليست عليّ جميع
مسئولية الحكم؟ فهل تكون مسئولية على الرئيس إذا لم تترك له حرية تامة فى اختيار
معاونيه؟
وكان سعد باشا حريصا على أن يمنح أهله وأقاربه من ماله وأطيانه حتى
يرقيهم ماديا وأدبيا,, فقد أعطى من ملكه ستين فدانا لابن أخيه عبدالله بك زغلول
لأنه توسم فيه النجابة، ثم أعطاه أربعمائة فدان، وأوصى بالثلث من جميع الأموال التي
يتركها سواء كانت ثابتة أو منقولة إلى كل من «سعيد» و«رتيبة» ولدي شقيقته,, لكل
منهما النصف,, وذلك قبل أن يدرك الموت «سعيد» وهو في عنفوان
صباه.
لم يكن زعيم الأمة
راغبا,, أو مهتما بجمع المال، فلم يقبل في أي قضية من قضاياه كمحام أكثر من خمسمائة
جنيه، ولم يقاض في طلب حقوقه أحدا من مستأجري أرضه، وإذا تأخر مستأجر في دفع إيجار
أرضه علم أنه «معذور» وربما تنازل عن ثلث الإيجار أو نصفه إذا علم أن الكساد هو سمة
العالم لدى المزارعين.
ولهذا لم يكن بخزانته يوم نفيه الأول إلى مالطة سوى خمسين
جنيها,, ولم يكن بها يوم نفيه الثاني إلى سيشل سوى جنيه واحد!!.
الأربعاء، 18 أبريل 2012
مرسلة بواسطة
الشاعرة
في
4:18 م
إرسال بالبريد الإلكتروني
كتابة مدونة حول هذه المشاركة
المشاركة على X
المشاركة في Facebook
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات:
إرسال تعليق