بالأمس صادف وجودي بالقرب من إحدى المظاهرات المحكي عنها والتي تراكمت أخبارها طيلة الأيام الماضية ،وبينما تركت في نفوس البعض الكثير من الخوف والتوجس والحيطة نجده ما بلغ الاهتمام الأغلبية ، كعادتي رحت أتوغل بين كتل الزحام ،هذا يستهويني جدا ،الانزلاق بين الناس ،الالتحام بملامح التعب ورائحة الكد وبساطة الحلم ،وأقصي الحلم أن يعود كل منهم بقروشه إلى بيته وأولاده سالما ، بدايه كانت الشوارع شبة خالية، اختارت الناس سكنى حالهم ، وأثناء سيري مع إحدى صديقاتي للتبضع بين أروقة بدايات تخفيضات الموسم – تردد على مسامعنا أن يركض الجميع ولتغلق لتوها المحلات فالمظاهرة قادمة مرورا من هذا الشارع التجاري والمكتظ بالمحلات والمارة وشاغلي الطريق لتمتد إلى الشوارع والروافد الأخرى ، ما وجدتها صديقتي..! ، ورغم أنها سلمية - سارع أصحاب المحلات بغلقها وهرول الباعة بعرباتهم المحملة بالشنط والإكسسوار الحريمي والشربات والأدوات المنزلية وملابس الأطفال والملابس الداخلية والكوفيات والطرح والمفارش الصيني ولعب الأطفال وحوائج العطارة وأشرطة الكاسيت والمزيد من بضائع العربات المتنقلة وكل حاجة "بتلاته ونص " يزجون بها في الشوارع الجانبية - وقع منها ما تكسر وتهشم – ليندس بعجلته بائع الفطير خلف ركام المبنى المتهالك ، بينما اندفع بائع الحرنكش بعربته يحتمي متخبطا محلا لبيع الذهب الذي يقف قبالته كي يلحقه قبل إسدال بابه الحديدي ، وما استطاع فلحق بما يجاوره، معرضا للملابس الحريمي - فهشم من زجاج فترينته ما دفع بصاحب المحل أن ينقض كهر أعمى ضاربا بمظاهرات الدنيا والمحتملة أيضا يوم الدين و يمسكه من ياقة جلبابه المتهرئ مهينا ما تبقى للمسكين من كرامة بينما يتوسله الأخير ليركض خلف حرنكشاته البرتقالية والتي تدحرجت بين صيحات المارة تختبر قامة الصياح ومتعة التمرد فمضغتها ساخرة أحذية الشرطة و المتظاهرين وسائر المهرولين والفضوليين ، وما فلت منها أكمل المسيرة - راح المتفرجون يصطفون الأرصفة يستقبلون مَقدم الهُتاف الحيوي والمثير- ليشاهدوا رؤيا العيان ما تخيلوه قبلا ،وما كتب عليهم في كتب التاريخ المبتور ، فمن أين لهم بمشاهدة مظاهرة تنديدية بغير الأفلام التاريخية –مرت المظاهرة والتي أثارت فضول بعض المارة أن يواكبوا سيرها شغفا وراء توقعات وتكهنات ما عساه يكون نهاية المطاف ..! وهناك آخر الرصيف ما أعرت للأمر اهتماما جموع الناس الملتفة حول محل الحلويات الشهير يتبادلون رغم الصقيع بسكويتات الأيس كريم وقطع الكنافة بالقشدة الظاهرة والمسيلة للعاب من أنهكه دربه بالكلية طيلة يوم وعمر شاق- يتكئ الرصيف العاري ، يتكور في تلا فيف زهده ليحتمي صقيع الغلاء وروماتيزم التعليم ومشقة البيئة وجهل الصحة ليجد نفسه منفصلا عن فئة يقال أنها النخبة أو الصفوة أو من يثرثرون عبر الشاشات نيابة عن عنه ( متوهمون أنهم خير من يحس بهم) ، يرقب الأمر عن كثب دون أيه تعليق أو حتى سؤال – جلس بسطاء الجمع الطيب- يفترش الحكايا والحواديت "بيقولوا ..، مش عارفين ، لا لا دا أكيد ،ناولني فطيرة من أم سكر وحياة أبوك ،وإحنا مالنا بالمظاهرات يخربيت أبوهم عاوزين نروح، العيال وحدهم في البيت ، طب يدونى 100 جنيه وأنا امشي في اجدعها مظاهرة ، حسنى كويس ، بس اللي حواليه شوية حرامية ولاد كلب وهرمة ، يعني هو مش عارف ..! تعالي بسرعة نرجع الخلاط دا ونجيب الثاني ارخص كتير ونجيب العـُبيان اللي شوفناها ( عـُبيان جمع عباءة ) ، هو فيه إيه يا ولاد – أنت منين يابا الحاج ، هايرخصو لك يابا اللحمة عشان تاكل والناس تاكل وتلظلظ وها تلبس كوتشي عشان تتنعم اكتر في بلاليع الخرابة ، هو الريس ماشي معاهم يا ولاد ، صباحك فل يابا ..ريس مين.. دا أنت اللي ريس "
ومازال خلف حباته الثائرة يركض على أربع ،يشبه العراه ،بعد أن جرده صاحب المحل المتضرر من ما تبقى له من عري وخيبة ، فشلت محاولات إنقاذ كريات الحرنكش، عب بعضا منها في كيس من البلاستك الأسود الممنوع ، افسحوا له المكان ،جلس بجانبهم على الرصيف يهذي ، يتابع دونما اهتمام دوران المشهد، سيارات النجدة تجر في أذيالها لسعة الإسعاف المثير للانتباه ، بينما جمهور المتفرجين يفوق جدا الأعداد المتظاهرة والتي بدأت تخبو بعض الشيء ، وزع حرنكشاته عليهم ، يواسونه ، ويسخرون من المشهد برمته " ماتزعلش حرنكشك قام بمظاهرة عظيمة ودخل التاريخ ، عشان نقول بلح زغلول وحرنكش .. اسمك ايه..؟ ، سعد ، ياسبحان الله وحرنكش سعد ، روق ياعم سعد "