راح يمسح المكان بعينيه المجهدتين. رأسه المصبوغ بالفضة تعطى معنى لانحناء ظهره الذى لا يكاد يرى ، لكنه يستشعره. المكان مزدحم بالزبائن عدا منضدة واحدة وجدها فى أحد الأركان. اتجه إليها ، سحب كرسيا و جلس فى هدوء . الجوع عضه بعد تجوال بلا هدف فى أنحاء المدينة التى دفعه مطرها للدخول إلى " كافيتريا الديك الذهبي " . نظر حوله فإذا بالكل شباب : فتيات رشيقات و شبان يشمرون سواعدهم عن أذرع مفتولة.
كان خلال تجواله يجرجر قدميه . كانتا مثقلتان بستين عاما مجدبة. راح ينقر بأصبعه على خشب المنضدة المستديرة ، ثم مد يده إلى المزهرية ، سحب الوردة فإذا بها من البلاستيك . آلمه أن يكون المكان بمثل هذه الأناقة ، و لا يجد أصحابه ما يضعونه غير وردة خرساء لا تنطق بجمال ما.
صفق بيديه، فابتلع ضجيج الشباب ، و ضحكاتهم الصوت المتخافت. رأته الفتاة التى تقوم بالخدمة، فتقدمت نحوه فى أدب جم . سألته عيناها : تأمر حضرتك.
تشبه ابنته نجوى التى سافرت منذ خمسة أعوام إلى كندا مع زوجها الذى لم يجد عملا فى القاهرة . اكتشف شروده ، سألها بمودة : ألا توجد لديكم ورود طبيعية ؟
- أفندم ؟
- وردة واحدة فقط من القرنفل أو الجورى أو عصفور الجنة؟
- لا أحد يلتفت لهذه الأمور .
- لكنها تهمنى .
- فى المرة القادمة ، سنوصى لك بوردة .
عاتبها بنبرة صوته : أتسخرين منى؟
- أبدا. أنت فى مقام والدى.
- ما اسمك؟
- نشوى.
ضحك وهو يراها أصغر من ابنته بحوالى عامين أو ثلاثة.
- ماذا لو جاءك عريس و طلب منك السفر معه إلى كندا؟
- لا أقبل
- غريبة . لماذا؟
- الموضوع معقد نوعا ما. لكن أبى ينتظر عودتى كل مساء.
- أرجوك ، إجلسى.
- لا ينفع . الشغل شغل.
- إذن أطلبى فنجانين من القهوة ، و تعالى نتكلم.
- هذا ممنوع.
- أنت ترين أن سنى لا يسمح لى بمغازلتك. أريد أن أستفهم منك لماذا ترفضين السفر؟
- دقيقة واحدة.
غابت قليلا واندفع هو فى هواجسه. هل يا ترى ظننته يشاغلها رغم فارق السن بينهما. ستذهب دون عودة.
قبل أن تقلقه الظنون، أتت بالصينية ،و عليها فنجانان من القهوة. ضحكت ، وهى تخفف عنه متاعبه : حذر فزر . أين فنجانك؟
كانا متماثلان. أشار إلى القريب منه فاتسعت ضحكتها : خدعتك. فنجانك ناحيتى .
لأول مرة منذ أسابيع يجد نفسه فى وضع بهجة : أنت شقية. كم سنك ؟
- خمسة و عشرون.
- صدق تخمينى. ابنتى نجوى تكبرك بثلاثة أعوام.
- لماذا لم تحضرها معك؟
- سافرت مع زوجها ولم تستمع لرأيى. راحت إلى مونتريال.
- لعلها تريد أن تبدأ حياتها من الصفر. هل زوجتك معك؟
- ماتت منذ سبع سنوات.
- آسفة. و الصبيان؟
- لم أنجب غير نجوى.
- ربنا يخليها لك.
نظرت الى ساعتها، واكتشف أنه قد أبقاها لفترة أطول مما طلب منها . مد يده بجنيهين ثمن القهوة ثم كوم عشرة جنيهات و دسها فى يدها.
انكمشت متراجعة ، بدا صوتها منزعجا رغم مرحها البادى : لا..لا أقبل.
تندت عيناها بدموع أزعجته.
رد : لم أقصد.
همست : لكنك جرحتني..
قاطعها محاولا تغيير مسار الحديث: كنت طلبتك احتجاجا على تلك الوردة الميتة!
هزت رأسها فاهمة : الكل هنا لا يهتم بالمسألة أصلا.
حاول أن يجد الكلمات المناسبة : مع الورد الطبيعى الربانى أحس براحة عميقة.
دلته عيناها على الجواب المقلق: أفهمك تماما..
كان قد انتهى من شرب قهوته فمدت يدها ورفعت فنجانها و رشفته برفق : تصور أول مرة اشرب قهوة.
- جيلكم يفضل الكوكا كولا؟!
- أكيد.
- لا أريد أن أعطلك.
- وجودك محل سرور لى.
هم بالانصراف، لكنها استبقته ، رتبت على كتفه امتنانا : أرجوك انتظر لحظة . غابت لنصف دقيقة ، ثم عادت إليه فى جلسته. شالت الوردة الشاحبة ووضعت مكانها وردة جورى لها بتلات بيضاء رقيقة . انحنى يتشممها فى سعادة، أما هى فقد شملتها بهجة لا حدود لها، و هى تمضى إلى عملها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق