كان يريدني أن أرى! حسام المقدم قصة
************
إلى روح الصديق الأديب الراحل "نجاتي عبدالقادر"..
وإلى الصديق القاص "عبدالرحيم عبدالهادي".
_______________________________
سيبدو الكوبري من فوق جناحي طائر خرافي علامة (+) بشكل ما. وإذا كان المزاج سابحا في بحيرة من القار، وفي هذا الضحى الرطب، سيتجلى الكوبري– من نفس المسقط العلوي الخرافي- رجلا بغلا ممدا بالطول فوق بطن امرأة نحيلة تنام بعرض السرير. علامة (+) أخرى من علامات عديدة تظهر وتختفي وتبرق مع العروق النافرة في جانبي جبهتي. خطفت بصري من تأمل الكوبري لأواجه صديقي الجالس أمامي على مقعد في الكافيتريا المطلة على هذا البحر الصغير. كان صامتا ينظر للكوبري عبر إمالة رأسه للخلف، فيما الكرسي الثالث المنبعج الذي يكمل مثلث جلستنا يبدو لي طائرا بسط جناحيه برأس مقطوع.
في الجوار يعبرنا الناس، ثم ينحرفون يمينا داخل المدينة، أو يسارا ليعبروا الكوبري. ومن الكوبري ينحدر الناس يمينا ليعبرونا قاذفين نظرات متعددة نحو الجالسين. كنت أنظر في عيون كل العابرين: عجائز وشباب ومنقبات وحاسرات، ثم تبربش عيناي مستقرتين في النهاية على وجه صديقي الممتلئ وجلبابه الأبيض. هو الذي أصر على اصطحابي إلى هنا، وقال إنه يريدني أن أرى. لم أناقشه فيما سأرى ولا كنه الذي سأراه؛ لأنني أثق تماما في قدرته على الإدهاش! فكرت وقدرت أنني في حاجة إلى الرؤية فعلا، حتى لو كنت في حالتي هذه بعيون ملسوعة بحرقة اللانوم، ورأس تشغي به شرارات تطقطق في الجهات الأربع. والأكثر إيلاما هذا النهار الماسك من نهارات يوليو الجهنمي. رغم ذلك تتدافع الأخلاط فوق جسد الكوبري.. الكوبري الثقيل الرابض على الصينية المدورة السوداء، التي تمتد منها في الجانبين قواعد خرسانية على وش الماء، آخذة شكلا سداسيا طويلا، مثبتا فوق زوائد متقاطعة من الحديد مرشوقة في قلب الماء. كأنني لأول مرة أرى النباتات الريشية الخضراء قائمة بانحناء وسط الشكل السداسي الأجوف، وهذه النفايات المشبوكة في الزوائد الحديدية، وما فردة الحذاء تلك المراوحة مكانها لا إلى قدام ولا إلى خلف؟ ولماذا يجثم صديقي فوق الكرسي المنبعج ليشكل رأسا ضخما لطائر فحل؟ كانت نظراته محدودة فيما بين الكوبري في الخلف والكرسي الخالي في الجوار. أخذ كرسيه بزحفة كاشطة للوراء مفسحا للولد الأسمر الذي جاء له بالتمر هندي ولي بالقهوة السادة. هل أطال الولد النظر إليه حين تلكأ في وضع الطلبات ومسح المنضدة الصاج المرتبكة؟ وهل ما يئز بأذني هو صوت تروس الصينية السوداء الرازحة تحت وطأة الكوبري بما عليه من بشر وعربات وتكاتك؟ عدت من توهماتي لأجد صديقي يدقق النظر في وجهي بعينيه المتسعتين حتى خفت منه للحظة. خرج صوته منفصلا عنه، فيما حول النظر للماء المخضر الجاري في الأسفل:
- ها .. شفت حاجة ولا لسه؟!
مثلت هدوءا يضاهي هدوءه:
- آه شفت الكوبري!
- كويس.. وبتقول إنك ماعونتش نافع وإنك ميت بالحيا!
وما الذي يمكن أن أراه هنا؟ لن أرى إلا ما يشبه كلماته المطلسمة، وهذه الطشة المباغتة لشيء طب في الماء، ثم دوامة صغيرة يبزغ منها رأس وجسم سابح بملابسه كاملة. جسم أسمر زلق مبلول في الفراغ القائم بين الشط والقواعد الموازية. في لحظة تالية سيقف أسمر آخر على سياج الكوبري فاردا ذراعيه راميا نفسه من هذا الارتفاع في قلب الماء. لماذا يعومون بملابسهم؟
- هما ليه..
- تجربة إنك تخش جوا الميه بحالك كدا فيها كتير!
- انت عرفت ازاي إن كنت هسأل عنهم؟
- عشان عينك عليهم!
سكت تماما. وطاف بذهني كل ما يقال عن غرابته وامتلاكه قدرات خاصة، وأنه يتكلم ليصمت ويصمت ليتكلم. ضحكت وأنا أقرأ بإصرار وجه تلك المرأة الجالسة هناك في مواجهتي برفقة طفلين. لها شفتان طازجتان جدا، خارجتان من أرض عفية.كانت تبتسم لي ثم تحول وجهها بسرعة. مصيبة لو كان مولانا يراها بظهره!حشت ضحكي ومسحت رقبتي بالمنديل الأبيض المجعد وزفرت بشدة. وفي لمحة توقفت يدي بين ياقة القميص ورقبتي، ونبضت عروق جبهتي بتسارع مسعور. وقفت وواجهته:
- فين الكرسي التالت اللي كان هنا؟
- آه.. كرسي "نجاتي".. من شوية أنا شفته جه سحبه ومشي!
وقعت مهدودا فوق الكرسي، مغمضا عيني على وجه "نجاتي"، يدور بي الشارع والكوبري. أنت الوحيد يا "نجاتي" الذي كان بإمكانه فك هذه اللغة التي يتكلم بها ثالثنا. كنت تختلي به وتتهامسان بهذه اللغة التي لا أفهمها. سيصيبني بالجنون صديقي هذا البارك في كرسيه مثل فيل. نظرت له بعينين غائبتين:
- "نجاتي" مات غرقان من شهرين يا "عبد الرحيم".. بلاش هلاوس.
- انت مش مصدق إن "نجاتي" جه وسحب الكرسي؟.. دا أنا حتى بشوفه كل يوم!
وقام بإشارة من يده تفيد أن كفى بهذا القدر. مد يده في سيالته وحاسب الولد الأسمر ومشى مترجرجا لينحرف يسارا عابرا الكوبري. رأيته هناك مطلا متأملا من فوق السياج. وها هو: ذلك الجرم السمين، مشبوح بطوله فوق السياج بقدمين مفرطحتين، وبكل ملابسه يطب في الماء مرفرفا بجلبابه الأبيض.
0 التعليقات:
إرسال تعليق