كان سطوع الزهرة فى حياتى رحمة إلهية تجسدت فى نبتة خضراء وزهرة وحيدة. وكان ظهورها معجزة ملأت قلوبنا بالفرحة. كنت أفتح الشباك وأقضى الساعات الطوال فى تأملها، فتملؤنى بالأمل والرغبة فى مواصلة الحياة. كانت حياتى/ حياتنا جميعا/ قبلها لا شىء. كنا نعيش حياة شنيعة تأنف منها الحيوانات. نجوع كما الكلاب، نُهان كما الكلاب، وُنطرد كما الكلاب.
هناك حيث أقيم فى بدروم معتم لا تزوره أشعة الشمس، خانق فى الصيف، صقيع فى الشتاء. لم تكن هناك أرضية بالمعنى المعروف، وإنما كتلة حجرية متآكلة غارقة فى المياه. الجدران مشققة مترعة بالرطوبة، والشباك الوحيد، الذى يربطنى بالعالم تحت مستوى الأرض مغلق بالقمامة ومخلفات البناء.
كان الجوع شاغلنا الشاغل، الجوع الذى يثنى البطن و(يبرجل) الدماغ. الجوع الذى يدفعك إلى أن تأكل من القمامة دون تقزز، ولولا الخبز المدعم لمتنا من الجوع. كانت رائحة الطهى نادرا ما تفوح من الغرف المجاورة. زمان كان ممكنا أن نشترى أرجل الدجاج ونطهو طعامنا على وهم اللحم، واليوم صار شراؤها ترفا لا يتحمله فقرنا الشديد.
■ ■ ■
كنت على وشك الانتحار أو ارتكاب جريمة حين لونت الزهرة حياتى بلونها المشرق الجميل. لاحظتها أول مرة ذات صباح شتائى مشمس بعد أيام متتابعة من هطول الأمطار. الشتاء عندنا جحيم من البرد والوحل والأمراض. والهواء يتسرب من كل مكان، مُحمّلا بقطرات الماء، الذى يتراكم رويدا حتى يصبح الرقاد مُحالا. البرد يعذبنا بالجوع والجوع يعذبنا بالبرد، ونحن نتكور على أنفسنا، محاولين الوصول إلى وضع أمثل يخفف عنا الجوع والبرد. كنا نلعن المطر ونلعن القوة الغامضة، التى تسببت لنا فى هذا الشقاء. عدونا كان كيانا غامضا يملك قدرات قصوى جعلته يحرمنا من الشبع والدفء والجفاف.
كنا نقيم فى غرف متلاصقة، تتشارك العشرات من الأسر فى دورات المياه. وإذا أراد الواحد منا أن يدخلها استيقظ قبل الفجر أو احتمل طابورا يمتد بالساعات. وكان الشتاء يعذبنا بالرغبة فى التبول، فنقضى حاجاتنا خلسة فى أحد الأركان.
■ ■ ■
وفجأة ظهرت الزهرة فى حياتى. فى شق من شقوق السلم المفضى إلى غرفتى شاهدت نبتة خضراء حملت الأمطار بذرتها من مكان ما، فوجدت طريقها للحياة. استطاعت أن تغرس نفسها بين درجات السلم المتآكلة، ارتشفت المطر الطهور ودموع المساكين. ونمت الزهرة البتول وسط أوراق نضرة تتوهج بالأمل وإرادة الحياة.
شاهدتها، فتسمرت أمامها. كانت تشيع البسمة والنغم فى قلوب المحرومين. كنت أشاهدها وألمسها وأسمعها. كانت تقول لى إنه لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس. كانت رحمة ربانية من رب كريم. طهرتنى من الألم، ألهمتنى بالأمل. ملأتنى بالنغم . لم تكن هناك مرآة لأشاهد نفسى وأنا أتأملها، لكنى كنت أعرف أننى أبتسم. من أجلها، فعلت ما لم أتصور أننى أفعله. أزحت كل أكوام القمامة المكدسة منذ دهور. من أجلها، فتحت الشباك الوحيد الموصد دائما، فقط كيلا تغيب الزهرة عن عينى وأشاهدها باستمرار.
■ ■ ■
كانت متعة كبيرة أن أفتح الشباك وأتأمل الزهرة لساعات طوال. والأجمل أن أشاهد - خلسة - ردود أفعال الناس حين يشاهدونها وقد أشرقت وسط شقوق السلم. مرة، توقفت أمامها فتاة نحيلة يبدو عليها سيماء الجوع، راحت تتأملها ونسيت المدرسة. لانت ملامحها المتجهمة، رفت على شفتيها ابتسامة حالمة، لمعت فى عينيها نظرة متوهجة. كنت أعلم أن ملابسها الداخلية ممزقة، وأن جواربها متسخة، وأنها فى الغالب لم تفطر لأن الإفطار عندنا بـ(الدور) بين الأخوات.
وقتها بدت - وهى تتأمل الزهرة - وكأنها تحلم بالجنة، بمكان لا يُجلد فيه الفقراء بالسياط، بحياة سعيدة، بملابس داخلية غير ممزقة، بجوارب تفوح منها رائحة الصابون، بطعام إفطار يكفيها ويكفى أخواتها، ولا يضطررن لانتظار دورهن كل عدة أيام. قالت لها الزهرة إن حياتك ستكون سعيدة جدا، وستشقين طريقك للفرح مثلما وجدت - فى شقوق السلم الحجرى - طريقى للحياة.
انصرفت الفتاة باسمة وقد ارتفعت معنوياتها. جميع سكان الحى العشوائى كانوا يقفون أمام الزهرة، تنقل لهم شعورا إيجابيا بالأمل، ثم ينصرفون مبتسمين.
كانت الزهرة وردتنا جميعا، لذلك لم يفكر أحد قط فى قطفها. كنا نخاف عليها من مطر الشتاء، لكننا كنا نجدها سليمة كل مرة، فنعرف أننا سنكون بخير فى يوم قريب، هكذا أخبرتنا وردتنا.
■ ■ ■
وجاء اليوم الحزين. جاءت الأقدام الغاشمة. جاءت الأقدام الباطشة. لم يكن له وجه، لم تكن له عيون، لم يكن له قلب يدق، أو شفتان حساستان تقبلان يد أم عجوز. كان مجرد قدمين غريبتين، حذاءين لامعين، من يلبس هذا الحذاء اللامع لا يمكن أن ينتمى إلى عالمنا الحزين. عرفت على الفور من منظر قدميه أنه غريب.
شعرت برهبة وكآبة وإحساس كالنبوءة، كنت أعرف أنه يتأمل الزهرة، وأشعر أن الشر سيملأ المكان. شاهدت ظله المتحرك، ثم اختفى الحذاءان اللامعان. ثم عاد الحذاء ووقف طويلا وكأنه يفكر. كنت أشعر أنه يتأمل الزهرة. وكنت أعرف ما هو آت.
■ ■ ■
كنت أعرف أنهم رغم الحذاء اللامع تعساء. وأنهم لا يفتأون يفكرون فى صفقاتهم، ويحملون الهمّ، ويحسدوننا فى أعماقهم على الأمل، على الضحكة الخالصة من القلب ولو كانت نادرة، على بسمتنا المشرقة ولو كانت شحيحة، على قدرتنا على تحمل الألم ومواصلة الحياة.
وبالفعل حدث ما توقعت: ارتفع الحذاء اللامع فى ظلم، ثم هوت القدم الباطشة على الزهرة البتول. ماتت وردة الآلام ومات معها الأمل، صرخت بأعلى الصوت، تبعثر الصوت فى الصدى، وارتجت المساكن بالخبر، وتجمع البؤساء، سكارى من الألم، وخرجنا جميعا لنأخذ الثأر لزهرتنا البتول.
هناك حيث أقيم فى بدروم معتم لا تزوره أشعة الشمس، خانق فى الصيف، صقيع فى الشتاء. لم تكن هناك أرضية بالمعنى المعروف، وإنما كتلة حجرية متآكلة غارقة فى المياه. الجدران مشققة مترعة بالرطوبة، والشباك الوحيد، الذى يربطنى بالعالم تحت مستوى الأرض مغلق بالقمامة ومخلفات البناء.
كان الجوع شاغلنا الشاغل، الجوع الذى يثنى البطن و(يبرجل) الدماغ. الجوع الذى يدفعك إلى أن تأكل من القمامة دون تقزز، ولولا الخبز المدعم لمتنا من الجوع. كانت رائحة الطهى نادرا ما تفوح من الغرف المجاورة. زمان كان ممكنا أن نشترى أرجل الدجاج ونطهو طعامنا على وهم اللحم، واليوم صار شراؤها ترفا لا يتحمله فقرنا الشديد.
■ ■ ■
كنت على وشك الانتحار أو ارتكاب جريمة حين لونت الزهرة حياتى بلونها المشرق الجميل. لاحظتها أول مرة ذات صباح شتائى مشمس بعد أيام متتابعة من هطول الأمطار. الشتاء عندنا جحيم من البرد والوحل والأمراض. والهواء يتسرب من كل مكان، مُحمّلا بقطرات الماء، الذى يتراكم رويدا حتى يصبح الرقاد مُحالا. البرد يعذبنا بالجوع والجوع يعذبنا بالبرد، ونحن نتكور على أنفسنا، محاولين الوصول إلى وضع أمثل يخفف عنا الجوع والبرد. كنا نلعن المطر ونلعن القوة الغامضة، التى تسببت لنا فى هذا الشقاء. عدونا كان كيانا غامضا يملك قدرات قصوى جعلته يحرمنا من الشبع والدفء والجفاف.
كنا نقيم فى غرف متلاصقة، تتشارك العشرات من الأسر فى دورات المياه. وإذا أراد الواحد منا أن يدخلها استيقظ قبل الفجر أو احتمل طابورا يمتد بالساعات. وكان الشتاء يعذبنا بالرغبة فى التبول، فنقضى حاجاتنا خلسة فى أحد الأركان.
■ ■ ■
وفجأة ظهرت الزهرة فى حياتى. فى شق من شقوق السلم المفضى إلى غرفتى شاهدت نبتة خضراء حملت الأمطار بذرتها من مكان ما، فوجدت طريقها للحياة. استطاعت أن تغرس نفسها بين درجات السلم المتآكلة، ارتشفت المطر الطهور ودموع المساكين. ونمت الزهرة البتول وسط أوراق نضرة تتوهج بالأمل وإرادة الحياة.
شاهدتها، فتسمرت أمامها. كانت تشيع البسمة والنغم فى قلوب المحرومين. كنت أشاهدها وألمسها وأسمعها. كانت تقول لى إنه لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس. كانت رحمة ربانية من رب كريم. طهرتنى من الألم، ألهمتنى بالأمل. ملأتنى بالنغم . لم تكن هناك مرآة لأشاهد نفسى وأنا أتأملها، لكنى كنت أعرف أننى أبتسم. من أجلها، فعلت ما لم أتصور أننى أفعله. أزحت كل أكوام القمامة المكدسة منذ دهور. من أجلها، فتحت الشباك الوحيد الموصد دائما، فقط كيلا تغيب الزهرة عن عينى وأشاهدها باستمرار.
■ ■ ■
كانت متعة كبيرة أن أفتح الشباك وأتأمل الزهرة لساعات طوال. والأجمل أن أشاهد - خلسة - ردود أفعال الناس حين يشاهدونها وقد أشرقت وسط شقوق السلم. مرة، توقفت أمامها فتاة نحيلة يبدو عليها سيماء الجوع، راحت تتأملها ونسيت المدرسة. لانت ملامحها المتجهمة، رفت على شفتيها ابتسامة حالمة، لمعت فى عينيها نظرة متوهجة. كنت أعلم أن ملابسها الداخلية ممزقة، وأن جواربها متسخة، وأنها فى الغالب لم تفطر لأن الإفطار عندنا بـ(الدور) بين الأخوات.
وقتها بدت - وهى تتأمل الزهرة - وكأنها تحلم بالجنة، بمكان لا يُجلد فيه الفقراء بالسياط، بحياة سعيدة، بملابس داخلية غير ممزقة، بجوارب تفوح منها رائحة الصابون، بطعام إفطار يكفيها ويكفى أخواتها، ولا يضطررن لانتظار دورهن كل عدة أيام. قالت لها الزهرة إن حياتك ستكون سعيدة جدا، وستشقين طريقك للفرح مثلما وجدت - فى شقوق السلم الحجرى - طريقى للحياة.
انصرفت الفتاة باسمة وقد ارتفعت معنوياتها. جميع سكان الحى العشوائى كانوا يقفون أمام الزهرة، تنقل لهم شعورا إيجابيا بالأمل، ثم ينصرفون مبتسمين.
كانت الزهرة وردتنا جميعا، لذلك لم يفكر أحد قط فى قطفها. كنا نخاف عليها من مطر الشتاء، لكننا كنا نجدها سليمة كل مرة، فنعرف أننا سنكون بخير فى يوم قريب، هكذا أخبرتنا وردتنا.
■ ■ ■
وجاء اليوم الحزين. جاءت الأقدام الغاشمة. جاءت الأقدام الباطشة. لم يكن له وجه، لم تكن له عيون، لم يكن له قلب يدق، أو شفتان حساستان تقبلان يد أم عجوز. كان مجرد قدمين غريبتين، حذاءين لامعين، من يلبس هذا الحذاء اللامع لا يمكن أن ينتمى إلى عالمنا الحزين. عرفت على الفور من منظر قدميه أنه غريب.
شعرت برهبة وكآبة وإحساس كالنبوءة، كنت أعرف أنه يتأمل الزهرة، وأشعر أن الشر سيملأ المكان. شاهدت ظله المتحرك، ثم اختفى الحذاءان اللامعان. ثم عاد الحذاء ووقف طويلا وكأنه يفكر. كنت أشعر أنه يتأمل الزهرة. وكنت أعرف ما هو آت.
■ ■ ■
كنت أعرف أنهم رغم الحذاء اللامع تعساء. وأنهم لا يفتأون يفكرون فى صفقاتهم، ويحملون الهمّ، ويحسدوننا فى أعماقهم على الأمل، على الضحكة الخالصة من القلب ولو كانت نادرة، على بسمتنا المشرقة ولو كانت شحيحة، على قدرتنا على تحمل الألم ومواصلة الحياة.
وبالفعل حدث ما توقعت: ارتفع الحذاء اللامع فى ظلم، ثم هوت القدم الباطشة على الزهرة البتول. ماتت وردة الآلام ومات معها الأمل، صرخت بأعلى الصوت، تبعثر الصوت فى الصدى، وارتجت المساكن بالخبر، وتجمع البؤساء، سكارى من الألم، وخرجنا جميعا لنأخذ الثأر لزهرتنا البتول.
0 التعليقات:
إرسال تعليق