هنا تجري طقوس غير معهود فوق هذه الأرض السخية الغنية ف
ي نهاية آب من عام 1988 حيث المخيم الصيفي لقرية ديريش الأصيلة ذات البعد التاريخي العريق حيث كان الأجداد الأوائل يحرثون في الصخر، ليزيلوه، ويزيلوا عروق الدغل، ويصلوا إلى قشرة الأرض، ويحفروا فيها سواقي ماء بعد أن شيدوا بيوتهم من حجر وطين، ولتكون سقوفها من أغصان البلوط والصنوبر والتراب، وتذكر فيها أساطير الدببة والذئاب والوعل الجبلي، وطائر القبج الذي يطلق صوته في الصباح والمساء، وكذلك تذكر فيها أساطير الكهوف والمغارات في جبل كارة الشاهق الارتفاع، وعواصف الثلوج في الشتاء، أحب ئازاد الوعل الجبلي ذا القرنين في طفولته، وأحب وثباته في انحدارات وعمق الوديان، وكيف تتدحرج الصخور عندما يقفز في السفوح، فيصرخ ئازاد : بابا ... بابا... ذاك الوعل الجبلي، وذات مرة رأى الدببة ترقص في الخريف، ومارس الرعي لقطعان الماعز الذي يقودها التيس الكبير بحركة جرسه المعلق إلى عنقه، يحرسها كلبه الوفي وهو يعوي عندما تحيد عن الطريق، أما شيرين فكانت صغيرة تحب اللعب فوق سطوح البيوت، وترافق أمها إلى ينبوع ماء، إلا أنها تعلقت بتغريد البلابل عندما تنقر في التين المعلق في غصون الأشجار، وهي ترفرف بأجنحتها في الهواء، أحب ئازاد شيرين، والتقوا قرب ينبوع الماء الصافي الرقراق، وتدفق الجداول بخرير عذب، وعندما تأتي إلى الزريبة لتحلب الماعز، فاحمر وجهها خجلا، ودمعت عيناها حينما قال لها ئازاد بصوت خافت : أنا أحبك . هرعت إلى بيتها وقد شغفت بقلبها الكلمات، وهي تردد مع نفسها : أنا أحبك أيضا .
اليوم وخلف جبل كارة وعند حمرة الغروب ارتعشت الكلمات من شفتي جبار سعيد الآتي من قلب المدينة، ومن زقاق محلة المشراق في النجف، ارتعشت من شغف قلبه في كردستان الذي التحق بصفوفها كبيشمركة منذ أعوام، حاملا بندقيته على كتفه، و ( عليجته ) على ظهره فيها زاده من قطعة رغيف وبصل أخضر أنتزعه من مزرعة صغيرة، وهو يسترقي السمع ذات يوم عندما قاتل جيش الدكتاتورية بشجاعة إلى تغريد في الظلام، فلم يكن هناك حجاب يسيطر على كلماته وروحه أن يكون في حلم، وما زال نجمه السماوي يأسره إلى الحرية، فقد غاب عن العالم في الجبال والوديان والسهول، وأحيانا كان يغيب عن نفسه، لينبثق من فمه إيقاع موجة غنائية رنانة من أصوات طيور تزدهر في ليله، وما زال يعرف نفسه في كفاح بطولي ضد طغيان وظلم الدكتاتورية، أنه دائما يحلم بكردستان التي أحبها قبل وبعد المعارك أن تنعم بالحرية، دائما كانت خطوط صور تتهادى في عينيه، هائلة، تتقاطع سريعة وهو ينظر إلى نجمه السماوي أن كردستان ستنال الحرية، كان قلبه يستمر في الأحلام، وتمر عليه فتنة عابرة أن هناك شرنقة تخرج منها فراشة ملونة، وتطير بين الأشجار والنباتات، هكذا كان يفكر منذ زمن طويل، فالأحلام تحييه ويحييها، أنه ما زال يعيش مع البيشمركة حياة كفاحية صعبة، وهو يسمع صدى أعمق، صدى أقوى من صدى الطيور، وكان يرى أثناء الخريف الأوراق المتساقطة المرتعشة تسبح في الهواء نحو الأرض، وركام الزمان أعواما وعقودا ضد الظلم ن أنه في حضن الأرض، وهذا ما ينطوي على الحب، ليخرج كردستان مع أخوته البيشمركة من ظلم الدكتاتورية .... ها قد نطقت شفتاه المرتعشتان مخلدا عقد قران، فقال جبار :
- لقد زوجتك يا شيرين على سنة الله ورسوله إلى ئازاد، فهل تقبلين ؟
فأجابت شيرين الحسناء كأنها فتاة من فتيات الجنان :
- نعم، قبلت...
فالتفت جبار إلى ئازاد، وقال :
- لقد زوجتك يا ئازاد على سنة الله ورسوله إلى شيرين، فهل تقبل ؟
فأجاب والفرح يكتسح وجهه :
- نعم قبلت ...
ثم تعالت الهلاهيل والأهازيج إلا أنهم لم يدبكوا على الأرض التي أحبوها لأن جيش الدكتاتورية يعد عدته بالهجوم على كردستان، فيما يسمى بالأنفال سيء الصيت، فقد كانت الطائرات تدق بقنابلها وصواريخها القرى، وتنثر سمومها على البشر، وتقوم بانزالات على سفوح الجبال لتشيع الموت والخراب والدمار . هكذا فر أهل القرى إلى تركيا مخلفين ورائهم ممتلكاتهم وبيوتهم والدواب لينجوا من الموت . لم يترك جبار ومفرزته المؤلفة من اثنتي عشرة بيشمركة التي مالبثت أن توسعت إلى اثنين وثلاثين شخصا، حيث أرادت أن تقاوم أو تفرض وجودها في برواري شيري لذلك راحت تختفي في النهار وتظهر في الليل، في ذات ليلة كان القمر أبيض وضاء، وقد اضطجع جبار على ظهره، وعيناه تعلقتا بالقمر، وقد تولاه العجب من هذا الطلوع، وهو يبحث بعينيه عن نجم سهيل الذي أحبه لسطوعه، السماء كانت صافية تتلألأ بالنجوم وحواس جبار تزدهر بهذه الروعة، وقلبه يبتهج بهذه الصورة السماوية، وتملكت روحه نشوة عذبة من رقة واطمئنان متوازن مع إيقاع الطبيعة التي يضيئها القمر، ويغسلها بنوره، وهو في عقله الحالم الذي يقوده إلى الرقة واللطف أن يعيش ئازاد وشيرين في اللحن الكردستاني الحر، يظفران بالسرور والسعادة في عالم خال من الهموم، في لحن متصاعد في أنشودة الطبيعة، في صوت رائع، يتنسمان بهواء عذب . كانت تراوده موجة من الأحلام وقلبه غارق فيها، لا تضوي، ولا تذبل . فجأة وهو مع القمر والنجوم والأحلام سمع أصوات حزينة كأنها أنين طفل . استمع إليها فردد صداها في الوديان، فنهض من مكانه متعجبا، حائرا، ما أفجع هذه الترنيمة الرنانة ! هذا ما قاله في نفسه، وهو يسترقي السمع، أصوات متداخلة، متقطعة، فتقم إلى سردار عمادية البيشمركة القديم الشجاع العارف بأسرار الطبيعة، فسأله باستعجال :
- ما هذه الأصوات ؟!
هز سردار رأسه، وقال موضحا :
- أنها أصوات الماعز، أنها تحن إلى راعيها الذي أطلقها في الجبال، أنها تائهة وتحس بالضياع، ثم أنها تخاف من الذئاب في الليل، وربما ينتابها العطش أيضا . هكذا يشعر الماعز بالحزن والغضب الذي يعبر عنه بهذا الأنين .
تقدم جبار إلى ينبوع ماء، بين الأشجار والظلال، وقد تغطت بأوراق خضراء مستديرة، وحشائش، وزنابق بيضاء صغيرة، وأزهار متفتحة حمراء وصفراء، والأغصان تتدلى عليها، وينزلق خريرها في ساقية ملتوية ضيقة، حينئذ بدأ النسيم يداعب الأغصان، ويتدفق حفيف الأوراق، وتهتز الزهور . جلس وغرف بكفيه الماء من عنق الساقية، وأطفأ ظمأه بعذوبة الماء، وهو يردد بخفوت :
- ما أروع رؤية السماء !
طافت المفرزة شهرين في المنطقة تتغذى على ما تركه أهل القرى من مواد غذائية بل كانت ترى القدور متروكة وقد طهي فيها الغذاء . أحست المفرزة بالحصار، وضرب الجيش طوقه عليهم، فقرروا الانسحاب إلى تركيا عبر سري عمادية، هذه المدينة ذات أصالة وعراقة في تاريخ كردستان حيث كانت تسمى إمارة العمادية، تتميز بطابعها الخاص ذات النمط الموحد في العادات والتقاليد، وفيها من العظمة والسحر أنها تقع على مقطع جبلي ضخم عال لتكون بديعة خلابة تشرف على السهول والتلال، يقابلها جبل متين الشاهق الذي شهد حروب كثيرة، ويقطعها عن متين شارع مبلط بالإسفلت . تسللت المفرزة في الليل، وقد فاجأهم ضوء الفجر، فاختفوا كل أثنين تحت شجرة، إلا أن جنديا رآهم، فأطلق النار من بندقيته باتجاه الوادي، وراح يتحدث مع جندي آخر، ما لبثا أن غادرا المكان، ومر النهار بتلألؤ شمسه وهم في اختفاء حتى انقضى محموما، متوهجا، وهم في استعداد على مواجهة عنيفة مع الجيش إلا أن ذلك لم يحدث، فوجدوا طريقهم إلى تركيا بعد أن مالت حمرة الغروب خلف متين .