بنات أربع، وأخ أصغر وحيد، هم كل ما لي. من بيننا جميعا، لم يرها سواي، وأكثر من مرة، بثوب أسود اعتادت المجيء به، وطرحة فضفاضة، كالحة البياض، تخفي بأكثرها ملامح الوجه. تضطرب ضربات قلبي، يكسو العرق بدني، لا يُثَبِّتني قليلا، إلا تأكيد جدتي ـ داخل حكاياتها ـ، أنهن كنسوة البشر، فيهن المؤذيات بلا سبب معلوم، وبينهن الطيبات، اللائي لايتورطن في الإيذاء، إلا إذا بادرهن أحد به، وزادني تثبيتا، مرور مشاهداتي الأولى لها، دون أي أذى. ولكَم ووددتُ، صمود أخي أمام النوم، ليشاركني رؤيتها، فيكون خير شاهد عند السؤال، إلا أنني عندما حادثته في شأنها، لم يسعفه الفهم، وبات شخيره على حاله، يرتفع ويهبط كما يحلو له، حتى وهي بين كنبتيّ النوم، وسط حجرتنا، المقابلة لحجرة أخواتنا، ببابيهما المواربين، ليتمكن النور الشاحب، للمبة المعلقة بالردهة، من التسلل إليهما.تنحني انحناءتها المعهودة، مادَّةً يدها تحت الكنبة، المنبعث شخيره من فوقها، رافعة بهدوء قماشة قديمة نظيفة، تبسطها أمي فوق أرغفة العيش، المتراصة بطست العجين النحاسي، تسحب يدها ـ المماثلة لأيدينا ـ، بضعة منها، مُخفية إياها بطرف طرحتها، قبل همِّها بمغادرة الحجرة، ليصل أذني بعد لحظات، صوت باب الدار القريب، وهو ينغلق. قالت أمي: تهيؤات... مجرد تهيؤات، ليتك تحكم الغطاء حول رأسك، ولاتبحلق كثيرا بالعتمة. تأخذني الحيرة.على أخي يستولي صمت الجاهلين، فيما أقسم أنا للولد خشبة ـ زميل اللعب والكُتَّاب ـ، بأنني أرى الجنيّة، وبأنها تأتينا ليلا، لتنال من أرغفة طستنا، الكائن تحت الكنبة، ثم تقفل عائدة دون ضجيج. في الحقيقة، وعلى العكس من المعروف عن الصغار، لم يكن الولد خشبة، ممن يستسلمون للخوف بسهولة، وكذلك أنا أيضا؛ كثيرا ما دفعني هو، ومن خلفنا بعض الرفاق، لاقتحام أضيق شوارع القرية، المُشاع عنه إيواء الجنيات والعفاريت. نتشاقى كثيرا، بالصفوف الخلفية لصلاة العشاء، قبل الانصراف قاصدين ذات الشارع، علَّنا نصادف جنياته و...، لنتأكد بأن عيونهم مشقوقة رأسياً، كما تؤكد حكايات الجدات، ولنر بأنفسنا، كيف يسدون الشارع؛ حائطا أمام السائرين، وحائطا من خلفهم، كنا نقول بارتياب: وماذا بعد؟ كثيرا ما كان ينتابنا ـ في البداية ـ، التردد والخوف، فيبلل العرق جباهنا، استجابة لدقات قلوبنا المتسارعة، ومرة بعد مرة، وهنت سطوة الخوف، وعاد السؤال: وماذا بعد؟ فلا الشارع ينغلق، ولاجنيات العيون المشقوقة رأسياً، ولا العفاريت، تقع في مرامي البصر! ... وبصري هذه المرة لايكذب، وفي مراميه وقعت مرارا، ومرارا أخرى لم تقع، بسبب نومي الثقيل، في ليال يسبقها غالبا، شقاء لعب طويل. وخشبة لا يريد التصديق، وأمي لمدة طويلة تقول: أكيد تهيؤات عند أخر مرة سألتها: هل ترتدي الجنيات الشباشب، مثلكن يا أمي؟ قالت باستنكار: شباشب؟! أنت باين عليك اتخبلت،... فعقدت لها القسم، على عزمي التعلق بجلبابها، مُطلقا الصرخات، حتى يظهر لها صاحب. بان التوجس في عينيها، ولفني يقين لايرين، بأن في جُعبتها ولابد، ما لم تبُح به بعد. ... لم تُرِدْ أمي، إرسال بعض الأرغفة إليها، يوما بعد يوم، كي تطعم أولادها الصغار، الذين فارقهم أبوهم، للقاء رب كريم، كما أعلمتها أمي، بسر فتح مزلاج بابنا، وبسر طست العجين النحاسي، تحت كنبة أخي، المترع بالخبز البلدي، تغادر صغارها النائمين لدقائق، قاطعة المسافة المحدودة بين الدارين، تسحب كفايتها من الأرغفة، لتعود محتمية بستر السكون، وسط الليالي المظلمة أوالمقمرة،. قالت أمي: مَدَّةُ اليد يا ولدي خسيسة، وبيدها لابيد غيرها، تسحب ما تشاء، وحق العيش والملح على الجيرة كبير... رقّتْ نبرة صوتها، لمعت بعينيها، طبقة شفيفة من ماء، قالت مكملة: وبرأي أبيك يا ولدي، تجري الأمور. من يومها وأنا أتمادى، في تمثيل دور النائم، كلما وصلت إلى سمعي، تكةُ باب الدار وهو ينفتح، حتى لا يقع بصري، على الخالة بهية، بثيابها السوداء، وطرحتها كالحة البياض، وهي تسحب الأرغفة من الطست، وتستدير عائدة. ***
عيش وملح قصة/فكري داود
الأحد، 24 يونيو 2012
مرسلة بواسطة
الشاعرة
في
3:42 م
إرسال بالبريد الإلكتروني
كتابة مدونة حول هذه المشاركة
المشاركة على X
المشاركة في Facebook
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات:
إرسال تعليق