وتأتي تجربة الروائي السعيد أحمد نجم (إيطاليا أو الغرق) 2005، مع رواية (بحر الروم) 2008، لأيمن زهري، من أحدث التجارب التي تناولت الموضوع شكلاً وتنظيراً وممارسةً ؛ لتعطي صورة أخرى من صور هذا المشهد القديم المتجدد، وإن كان المشهد هنا في هاتين الروايتين أكثر اختلافاً وإيلاماً، كونه اكتنفته ظروف حياتية واقتصادية وتجارب شخصية، زادت من واقعية الصورة وقسوتها.
أهدى المؤلف روايته هذه إلى «حمدي أحمد وإلي أحد أبناء قريته الذين سحبهم القدر من بين أنياب البحر الأبيض المتوسط ليتسلل بعد والرفاق إلى ليبيا عبر تونس الشقيقة».
يُمهد السعيد أحمد نجم لروايته بإيراد صور من مآسي الناس الحياتية، وما يكابدونه من أجل الحصول على لقمة العيش التي لم تكن تسد الرمق، اعتمد المؤلف على السرد المباشر وترتيب اللوحات مع المحافظة على تسلسل الأحداث ، من حياته صغيرا وتعلُّقه الصبياني بسلوى – التي لم تظهر إلا في خياله – ثم موت أمه وما كانت تمثله له من عزاء ضد قسوة الوالد وضيق الحياة، ثم انتقل إلى مأساته مع زوجة أبيه التي أذاقته الأمرّين، ونمطية زوجة الأب في الرواية، حيث المرأة الصغيرة المتصابية المُدللة، التي تستخدم أنوثتها في السيطرة على رب الأسرة، وإعداد الدسائس وافتعال المشاكل، ليقوم الأب بطرد فتحي وأخيه عليوة من المنزل، لتخلو الساحة لها ولأولادها، تلهو فيها كما تشاء(2).
تدفع الظروف المحيطة بفتحي إلى اختيار أصعب الطرق وأقصرها، والتي كانت منتشرة في ذلك الوقت، وهي أن يهاجر إلى أوروبا، حيث تبدأ رحلة العذاب الطويلة من أجل البحث عن رزق ضنَّ به الوطن، حيث يهاجر الشباب المصري هجرة غير شرعية مع زملائه من مصر إلى ليبيا أو تونس، ومنها يحاولون التسلل إلى الشواطئ الإيطالية أو اليونانية، ولكن معظمهم يغرق قبل الوصول إلى حلمه المستحيل، وإذا وصل فسرعان ما يتم القبض عليه، ويرحل ثانية إلى مصر.
عند أيمن زهري في «بحر الروم» يتطابق الواقع المعيش مع الواقع الروائي، أو العكس. فلم تقف الرواية المصرية مكتوفة الأيدي إزاء ما يحدث لشبابنا في مسلسل مفزع يتكرر ولا نعرف متى ستنتهي حلقاته التي تكاد تطابق أحداثها المتكررة. وفي خبر نشرته وسائل الإعلام والصحف اليومية المصرية الثلاثاء (17/6/2008) تقول عناوينه الرئيسية «مأساة مسلسل غرق المصريين». غرق 50 مصريا أمام شواطئ ليبيا حاولوا الهجرة غير الشرعية. وهناك صعوبة التعرف على جثث الضحايا لتحللها.. والناجي الوحيد يروي تفاصيل الحادث.
وتكاد الأحداث تتطابق في كلا الروايتين، فالتجربة واحدة والهموم واحدة وأسباب الهجرة الشرعية واحدة، ولكن يبدو السعيد أحمد نجم أكثر تمرُّساًَ في الكتابة الروائية وأكثر موهبة من أيمن زهري الذي هرب منه الفن الروائي في كثير من مناطق العمل، واعتمد على ضمير المتكلم، في سرد تقريري وحوار مباشر، ودخل على الأحداث مباشرة، دون تمهيد أو إلماح فني لأسباب الأزمة، ودوافعها ولماذا يريد الشباب المصري الهروب أو السفر بهذه الطريقة الانتحارية، ولعل التجربة الشخصية التي مارسها نجم؛ كانت عاملاً مهماً في دفع روايته إلى منطقة الوضوح والفاعلية، وكاتب هذه السطور يعرف مؤلف الرواية جيداً، وعلى علم بما كابده في أثناء خوض تجربة مشابهة لما كتبه، وكيف تطابقت عنده الصورة مع الواقع.
لقد عاد فتحي بعد أن نجا من موت مُحقق في تجربته الأولى، رغم اعتراض جميع زملائه على تلك العودة، فعلى الرغم من أنه كُتبت النجاة لهم في حادثة أولى، إلا أنهم أرادوا أن يكرروا التجربة عسى أن ينجحوا في التجربة الثانية، لنجد هذا الإصرار الغريب على الانتحار وسط رداءة الطقس وعدم صلاحية القوارب المطاطية أو الخشبية التي تنقلهم لسفن أكبر. ورغم اكتشافهم أنهم خدعوا وأنهم ألعوبة في أيدي عصابات التهريب وسماسرة البشر في مصر وليبيا التي لا يعرف عنها أحد شيئا، إلا أنهم مصرون على المُضِي في طريق الموت، أهون عليهم من مواجهة فداحة الواقع، وهذا نوع من الهروب الذي كانت تمارسه البشرية عند إحساسها بالهزيمة، وهو نوع أيضاً من الإقرار بالهزيمة والتعبير عن عجزهم عن مواجهة الواقع. شباب يحملون آمالاً ، وأحلاماً، وطموحات ، وقضايا أجيال في ظل الظروف الراهنة.
يعود فتحي ليروي لنا تجربته سواء قبل السفر أو أثناءه أو بعده، ويضعها تحت أعين القراء والمسؤولين، موضحا بطريقة فنية لافتة أسباب السفر والهجرة والرغبة القوية في ترك البلد، وكأنه تقرير فني أو أنشودة اجتماعية سياسية اقتصادية فنية، ليتعرف كل فرد منا، أو كل باحث اجتماعي وسياسي على الدواعي والأسباب التي تجعل من شباب في عمر الزهور يتركون البلد ويمضون في طريق اللاعودة.
والواقع أن مأساة فتحي بدأت قبل ذلك، عندما كان طالباً في المدرسة الثانوية، فهو واقع مأزوم، تسرب اليأس إلى أهله وساكنيه وهم ما زالوا في يَفعَة من العمر، ففي المدرسة الثانوية:
مدرس العلوم يشرح طريقة «فلمنج» لمعرفة اتجاه التيار الكهربائي متخذًا من أصابع يده مؤشرًا للاتجاهات.
- أثار منظر يده ضحكات بعض الطلاب؟ كنت أكثرهم ضحكًا. وأول مَن رآه المدرس من الضاحكين..
- أوقفني فوقفت بشيء من اللامبالاة. زادت وقفتي تلك استثارته فقال:
- ما تقف كويس يا بني.. بتضحك على أيه؟
- ما تقف كويس يا بني.. بتضحك على أيه؟
- ولا حاجة يا بيه.. وبعدين اشمعنى أنا، ما كلهم بيضحكم؟
- مش عاجبكم يعني.. جاتكم نيلة كلكم.. إنت تطول تبقى مدرس إنت وهوه، وهوه !..
- ابقوا قابلوني إن نفعتم.. اقعد يا أخويا واحترم نفسك.. القاعدة اللي بتضحكوا عليها دي ما انتوش عارفين أد أيه «فلمنج» سهر وتعب لغاية ما اكتشفها.
- وجلست.. مدرس !.. لا ، لن أكون مدرسًا.. مثله !.. لا يمكن أن أكون مثله.
0 التعليقات:
إرسال تعليق